06/05/2024 - 10:09

نسويّة لا يمكنها التعاطف مع الفلسطينيّين | حوار مع لمى أبو عودة

نسويّة لا يمكنها التعاطف مع الفلسطينيّين | حوار مع لمى أبو عودة

لمى أبو عودة، الناشطة النسويّة وأستاذة القانون في جامعة جوج تاون

 

* أثبتت الحركة النسويّة التقاطعيّة أنّها مفيدة لـ «الحزب الديمقراطيّ» كإطار لدمج دوائر الهويّة الجديدة الّتي تصوّت وتتبرّع للحزب.

* لُطِّخَت الحركة النسويّة التقاطعيّة بلطخة الطبقة الإداريّة المهنيّة.

* يمثّل المهاجرون المسلمون تحدّيًا حقيقيًّا لإعادة البناء في مرحلة ما بعد الليبراليّة.

 

يمكن القول إنّ حرب الإبادة الّتي يشنّها النظام الصهيونيّ على قطاع غزّة، تُعَدّ أهمّ حدث منذ الانتفاضات العربيّة بعد عام 2011 على مستوى المنطقة العربيّة. ومثلما غيّرتنا تلك الأحداث، بحلوها ومرّها؛ فهذه الحرب أيضًا غيّرتنا وستغيّرنا. لم نَعُدْ نتحدّث هنا عن ثنائيّة القامع والمقموع ببساطتها كما كان الوضع عليه قبل الحرب. المرأة والرجل، الأبويّة والنسويّة، السلطة السياسيّة ورعاياها، العلمانيّة والدين، الرأسماليّة ومعاداتها، كلّها تُباد، كلّها تصمد، كلّها تعيش أيّامًا مفصليّة. أصبح بإمكاننا رؤية هذه الثنائيّات باستقلاليّة عن العالَم الغربيّ المشترك في هذه الإبادة؛ هنا نجد نسويّتنا في مواجهة أبويّتهم، ونجد أبويّتنا؛ أي أبويّة الشيخ خالد النبهان، الفطينة الرفيعة الخاشعة الهادئة، في مواجهة النسويّة الإباديّة الدمويّة البربريّة لمجنّداتهم في الفضاء الرقميّ الإعلاميّ، وعلى الأرض المغتصبة.

من هذا المنطلق، حاورنا في فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة الناشطة النسويّة وأستاذة القانون في واشنطن، الدكتورة لمى أبو عودة، الّتي اكتسبت في العقود الأخيرة المقدرة على صياغة خرائط الحلفاء والأعداء للقضيّة الفلسطينيّة وغيرها من القضايا العادلة، في الولايات المتّحدة والعالم الغربيّ، والمقدرة على التعامل مع أسئلة معقّدة وشائكة، مثل تشابك صراع المرأة وتقاطعه من أجل المساواة مع صراع الفلسطينيّ؛ من أجل مقاومة الإبادة الاستعماريّة.

 

فُسْحَة: في حقبتَي الحرب على الإرهاب وانتفاضات الربيع العربيّ وحروبه، كان ثمّة حالة من التلاقي بين المحافظين الجدد والليبراليّين الدوليّين في واشنطن وبروكسل، في ما يتعلّق بتبنّي سياسة خارجيّة نسويّة في المنطقة العربيّة. مثال بارز على زبدة هذا التلاقي  ما كتبته الناشطة النسويّة الأمريكيّة المصريّة منى الطحاوي في مقالها، في مجلّة «فورين بولسي»، الموجّه إلى الجمهور الغربيّ الأبيض، الّذي شرح بمصطلحات جورج بوش الابن، كيف يكره الرجال العرب حرّيّة النساء العربيّات، تمامًا كما يكره المسلمون حرّيّة الغربيّين، ما رأيك في ما كتبته الطحاوي؟

لمى أبو عودة: كتبت الطحاوي في وقت كان فيه الربيع العربيّ يشهد طفرة جديدة في النشاط النسويّ المرتبط بالقوى المعارضة الناشئة الّتي تناهض السلطويّة في العالم العربيّ. من الصعب تعريف تلك الحركات النسويّة باتّباع التصنيف الغربيّ لـ "الموجة الأولى، الموجة الثانية، وما إلى ذلك…". لكن يراودنا الشعور بأنّ الشابّات اللّاتي شاركن الرجال في هذه المناهضة السياسيّة لم يَعُدْنَ يتقبّلن الوضع القائم. سواء كنّ يوجّهن سخطهنّ نحو رفاقهنّ في النضال، الّذين أساؤوا معاملتهنّ وفهمهنّ، أو نحو الدولة أو الجيش المسيئين الّذين حاولوا تقويض نشاطهنّ من خلال الطعن بنزاهتهنّ من الناحية الجنسيّة؛ فقد قاومت هؤلاء النساء كلّ تلك التحدّيات، ولقد أدخلن أشكالًا جديدة من التسييس لم تخطر ببال رفاقهنّ الليبراليّين، ولا حتّى اليساريّين الراديكاليّين. هذا التسييس اتّخذ شاكلة التفاوض على مساحات آمنة وشخصيّة لأنفسهنّ، أثناء انضمامهنّ إلى رفاقهنّ الذكور في النضال. وبينما قُمْنَ بتسييس هذه المساحات، فكّرن مليًّا في وضعهنّ وكتبن عنه، وكانت كتاباتهنّ غنيّة بالبصيرة والتحليل. هنا؛ أنتجت تلك الشابّات ما هو جديد وأصليّ وجذريّ ومثمر للّحظة الثوريّة الّتي مَرَرْنَ فيها في تلك الحقبة.

لم تكن الطحاوي جزءًا من ذاك المشهد؛ لأنّها كانت مغتربة مصريّة كتبت من المركز الإمبرياليّ. لم تكن كتاباتها نتاجًا لمشهد الناشطيّة ذاك، بقدر ما كانت بمنزلة مذكّرات متمرّدة على خلفيّة عائليّة محافظة. كتبت في تمرّدها عن مجتمع كانت تكرهه، وعن دين لم تحبّه. في بعض النواحي، يمكنك أن ترى أنّ الطحاوي بهيئتها الأكثر راديكاليّة: غير متهاونة، وحادّة، وشموليّة. "J’accuse" [أي أنا أدين] صرخت الطحاوي. هذا هو الموقف الشموليّ الّذي لا تكون الإدانة فيه جزءًا من بنية التفاوض مع الآخرين، أي الرجال، ولكنّه شكل من أشكال الاحتجاج الّذي جعل صرخة القلب قابلة للاستحواذ من قِبَل المركز الإمبرياليّ.

 

فُسْحَة: منذ انتخاب دونالد ترامب في عام 2016، وهنالك ما يشبه الهستيريا الجماعيّة الليبراليّة، الّتي تلبس رداء الثورة الثقافيّة في الولايات المتّحدة، حيث كان من علامات هذه الثورة ظهور نسويّة تقاطعيّة تحت مظلّة «الحزب الديمقراطيّ»، منفتحة مبدئيًّا تجاه حقوق الفلسطينيّين. كيف تقيّمين هذه النسويّة في الأعوام الّتي سبقت السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر)؟

أبو عودة: ظهرت الحركة النسويّة التقاطعيّة في الأوساط الأكاديميّة القانونيّة في الثمانينات؛ في محاولة لتطوير فَهْم وضع المرأة السوداء؛ باعتبارها تقف على تقاطع شكلين من أشكال التمييز القانونيّ؛ العرق والجنس. أتذكّر بوضوح عندما استخدمت هذا المصطلح هيلاري كلينتون وقت كانت المرشّحة الرئاسيّة، في تغريدة لها. كان الغرض من دخول النسويّة التقاطعيّة في لغة «الحزب الديمقراطيّ» توظيفها لمحاربة كلٍّ من قاعدة ترامب المتكوّنة من الرجال البيض الساخطين وقاعدة بيرني ساندر من الطبقة العاملة. ومنذ ذلك الحين، دُمِجَ هذا المصطلح في لغة الطبقة الإداريّة المهنيّة (PMC) - وهي قاعدة انتخابيّة رئيسيّة لـ «الحزب الديمقراطيّ» - باعتبارها واحدة من تعبيرات سياسات الهويّة الّتي تعشقها هذه الطبقة بشدّة. بإمكاننا القول أنّ الحركة النسويّة التقاطعيّة لُطِّخَتْ بلطخة الطبقة الإداريّة المهنيّة، ويمكن للمرء أن يرى كيف اصطحبت هذه الطبقة هذا المصطلح معها أينما ذهبت مؤسّساتيًّا، بما في ذلك «الأمم المتّحدة» والهيئات الإقليميّة والهيئات المهنيّة، وما إلى ذلك.

منذ ذلك الحين أثبتت الحركة النسويّة التقاطعيّة أنّها مفيدة لـ «الحزب الديمقراطيّ» إطارًا لدمج دوائر الهويّة الجديدة الّتي تصوّت وتتبرّع للحزب. لا يحتاج المرء إلّا أن يشهد دمج الديمقراطيّين لمسألة العابرين الجنسيّين بصفتها قضيّة ضمن قضايا التحالف المتعدّد الجوانب، حتّى لو كانت هذه المسألة على تعارض  مباشر لمصالح ومكاسب المرأة.

هذا لا يعني أنّ الحركة النسويّة التقاطعيّة ليس لها طابعها الراديكاليّ الخاصّ بها. يمكننا أن نستخدم التقاطعيّة على سبيل المثال لانتقاد جولي بيندل، الناشطة النسويّة الراديكاليّة، الّتي سارعت إلى توجيه الاتّهام إلى «حماس» بارتكاب جرائم اغتصاب في 7 تشرين الأوّل (أكتوبر)، بأدلّة ضئيلة أو يمكن دحضها بسهولة؛ تعبيرًا عن عنصريّتها. الرجال العرب المسلمون مشتبه بهم مسبقًا كمغتصبين، وهذا يكفي لاتّهام «حماس» باغتصاب النساء الإسرائيليّات. تعطي النسويّة التقاطعيّة أولويّة للتفاعل مع قضايا الاستعمار والعنصريّة قبل التعامل مع قضايا الأبويّة أو هيمنة الذكور، وهذه الزاوية تمثّل توظيفًا مفيدًا لتلك القدرة المفاهيميّة الّتي تمتلكها التقاطعيّة، الّتي جعلت التقاطعيّة مفتوحة أمام القضيّة الفلسطينيّة. لكن، في نهاية المطاف، فإنّ القضايا المتعدّدة الّتي يتبنّاها «الحزب الديمقراطيّ» تحت مظلّة التقاطعيّة، تُعَزَّز وتُخَفَّض رتبتها وفقًا للاحتياجات المعاصرة للديمقراطيّين وحاجتهم إلى الفوز في الانتخابات.

 

فُسْحَة: نشهد بعد «طوفان الأقصى» عمليّة يَمْنَنَة عنيفة للنسويّة، وعودة إلى النسويّة البيضاء بامتياز، خاصّة مع الدعايات الصهيونيّة بوجود حالات اغتصاب في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر)، كما أشرت سابقًا عند حديثك عن جولي بيندل. المؤسف في الموضوع هو خيانة النسويّة الشعبويّة - المعادية للسياسات النيوليبراليّة الّتي تقوّض العائلة النوويّة من الطبقة العاملة - لمعاناة الفلسطينيّين وغضّها الطرف عن محو عائلات كاملة من السجلّ المدنيّ، وتبنّيها بدلًا من ذلك سرديّة استشراقيّة قائمة على حماية المرأة البيضاء من الذكر الخطير الأسود والبنّيّ. كيف تفسّرين مثل هذه الخيانة من قبل المثقّفة النسويّة الشعبويّة في الغرب؟

أبو عودة: أنا أميل أكثر إلى تسمية هذه الحركة النسويّة بـ "نسويّة ما بعد الليبراليّة/ الشعبويّة"، لكنّ تكييفك لتسمية هذه الحركة مفهوم. قد يظنّ المرء أنّ هؤلاء النسويّات ما بعد الليبراليّات سيرحّبن بالتضامن مع الثقافات ما قبل الليبراليّة للمهاجرين المسلمين، وسيرون فينا رفاقًا في نفس مشروع إعادة البناء المناهض لليبراليّة أو لما بعد الليبراليّة الّذي ينخرطون فيه. التفسير الوحيد الّذي أملكه لعدائهم أنّهم، من ناحية، يروننا خارج ثنائية الليبراليّ أو المحافظ، وننتمي تمامًا إلى ثقافة مختلفة جذريًّا لا يمكنهم الارتباط بها، ومن ناحية أخرى، يرون هذه الثقافة جزءًا من القوى الثقافيّة الّتي يقاتلون ضدّها في أوروبّا. يبدو الأمر كما لو أنّهم يقولون إنّ الليبراليّة ليست فقط الّتي تنخر في بنية الأسرة الأوروبّيّة، بل إنّ المهاجرين المسلمين أيضًا هم الّذين يعرقلون هذا المشروع الترميميّ؛ من خلال تقديم البديل السهل للغرب لإعادة البناء المناهض لليبراليّة.

يمثّل المهاجرون المسلمون تحدّيًا حقيقيًّا لإعادة البناء في مرحلة ما بعد الليبراليّة: أوّلًا، لديهم معدّل مواليد مرتفع مقارنة بالمعدّل الأوروبّيّ الّذي ينخفض ​​إلى معدّلات سلبيّة، ثانيًا، يتزوّج المسلمون فقط من المسلمين الآخرين؛ وثالثًا، لديهم خصوصيّة في ثقافتهم ودينهم. إنّها حقائق مخيفة بالنسبة إلى أنصار ما بعد الليبراليّة، فهي تشير إلى أنّ أوروبّا ربّما تسير بخطًى أسرع نحو ’مستقبل إسلاميّ‘ مقارنة بسيرها نحو ’مستقبل يهوديّ مسيحيّ‘ معادٌ بناؤه في مرحلة ما بعد الليبراليّة. أعتقد أنّهم ينظرون إلى فلسطين من هذا المنظور، وهم غير قادرين على التعاطف معها؛ ففي نهاية المطاف، مَنْ هم الأشخاص الّذين يملؤون شوارع أوروبّا، وهم ينتفضون ضدّ الإبادة الجماعيّة في غزّة، سوى هؤلاء المهاجرين المسلمين الّذين يُنْظَر إليهم على أنّهم يهدّدون المستقبل الثقافيّ لأوروبّا؟ من المؤكّد أنّه من المثير للحسد مشاهدة وفرة الأطفال في غزّة، في حين أنّ ما تناضل ضدّه هو ندرة الأطفال في بلدك. وربّما يكون هناك متعة سرّيّة في رؤية هؤلاء الأطفال يُقْتَلون؛ تجسيدًا لرغبة ما بعد الليبراليّين السرّيّة في التخلّص من المهاجرين المسلمين. مَنْ يدري؟ هذا لا ينفي أنّ هناك أيضًا نسويّات صهيونيّات من بين اللاتي ولاؤهنّ لدولة إسرائيل، واللاتي يكيّفن إيمانهنّ النسويّ بشكل مسبق لاستيعاب صهيونيّتهنّ.

 

فُسْحَة: على الصعيد المقابل، نجد هناك في الولايات المتّحدة دعوات ليبراليّة إلى تقاطعيّة صهيونيّة، مثلما نوّهت الكوميديّة إيمي شومر؛ تقاطعيّة تدعو إلى التركيز على حماية دولة اليهود - أي الكيان الاستعماريّ - وتتبنّى سياسات تقدّميّة بشأن كلّ الشرائح المهمّشة باستثناء الفلسطينيّين. كيف يُفَسَّر ذلك الخلل البنيويّ في التقاطعيّة المذكورة آنفًا؟

أبو عودة: أعتقد أنّ هذا يمكن تفسيره من خلال الظاهرة الّتي أشرت إليها أعلاه، وهي أنّ التقاطعيّة استحوذت عليها الطبقة المهنيّة الاحترافيّة، بحيث تحوّلت إلى وعاء فارغ يمكن أن يستوعب قضايا مجموعات الهويّة المختلفة الّتي تشكّل قاعدة ناخبي «الحزب الديمقراطيّ»، حتّى لو كان ترتيب الضحايا داخل التقاطعيّة يختلف باختلاف من يتحدّث.

 


 

فخري الصرداوي

 

 

 

كاتب وقاصّ من رام الله. يعمل في مجال القانون الدوليّ والعلوم السياسيّة، حاصل على الماجستير في العمل الدوليّ الإنسانيّ من «جامعة ديوستو» في إقليم الباسك. يهتمّ بالكتابة الساخرة من المجتمع التقليديّ، ومن ثقافة الصوابيّة السياسيّة على حدّ سواء.

 

 

 

التعليقات